في عالم الأسواق المالية، نادرًا ما يظهر رجل يغيّر قواعد اللعبة بالكامل. أحد هؤلاء القلائل هو وليم ديلبرت جان (William Delbert Gann)، الذي خلد اسمه في تاريخ التداول، ليس فقط بفضل أرباحه المذهلة، ولكن بسبب فلسفته الفريدة التي ربطت الأسواق المالية بقوانين الطبيعة والرياضيات.
إحدى الشهادات المهمة التي توثق عظمة هذا الرجل وتأثيره في عالم “وول ستريت”، جاءت في الحديث الصحفي النادر الذي أجراه معه ريتشارد ويكوف، أحد أبرز الصحفيين الماليين في بدايات القرن العشرين. نُشر هذا اللقاء في مجلة Ticker and Investment Digest عام 1909، وكان بمثابة نافذة نادرة نطل من خلالها على عقليتة ، بعيدًا عن كتبه المشهورة.
جان بين الدقة والتعقيد: شهادة من داخل عالم التداول
يقول أحد المحللين المخضرمين:“لقد قضيت سنوات أدرس وليم جان وكل ما تركه من دورات وأبحاث. بدأ بطريقة ميكانيكية بسيطة لتعليم التداول، وعندما كان يرى أن المتداول يحقق أرباحًا بها، كان يكشف له الطبقة الأعمق من أسرار التوقع.”
ويضيف:“هناك تقاطع كبير بين مستويات تصحيح جان وتصحيحات فيبوناتشي الشهيرة. فحين كان يستخدم نسب 3/8 و5/8، كان عمليًا يشير إلى نفس النطاقات التي نعرفها اليوم بـ 38.2% و61.8%.”
لكن التحدي الحقيقي في تطبيق أدواته– مثل مراوح جان وخطوط الاتجاه – يكمن في تحديد المقياس الزمني والسعري بدقة أثناء تطور السوق. فبينما تبدو الخطوط مثالية على الرسم البياني بعد وقوع الأحداث، إلا أن رسمها مسبقًا يتطلب مهارة عالية وفهمًا عميقًا للهندسة الزمنية.
ويؤكد المتحدث:“انتقل لاحقًا لاستخدام الأدوات الفلكية في التوقع، وهي منطقة غاية في العمق والتعقيد. لكن في الواقع العملي، حين أضع خطة تداول، أجد أن نماذج فيبوناتشي مثل نمط Gartley أكثر فاعلية.”
ويختم بقوله:“أحب التوقعات والأساليب الزمنية ، ويمكنني الحديث عنها لساعات. لكن الدرس الأهم الذي تعلمته هو: عندما تدخل غرفة التداول، اخلع آراءك كما تخلع معطفك… وتداول السوق، لا التوقعات.“
إنجاز مذهل في 25 يومًا فقط
في هذا اللقاء، وثّقت المجلة تجربة تداولية قام بها جان خلال أكتوبر 1909. ففي فترة 25 يوم عمل فقط، أجرى جان 286 صفقة على عدة أسهم، في الاتجاهين: شراء وبيع. كانت النتيجة مذهلة: 264 صفقة رابحة مقابل 22 صفقة خاسرة فقط، أي بنسبة نجاح تتجاوز 92%. الأهم من ذلك، أنه ضاعف حسابه 10 مرات خلال هذه الفترة القصيرة – أي حقق 1000% ربح على رأس المال الأصلي. (تم شرح هذه الاستراتيجية لاحقًا في المستويات المتقدمة من أدوات جان).
جان يتحدث: البداية كانت خسارة
وللمرة الأولى، تحدث جان بصراحة عن رحلته الفكرية والعملية، قائلًا:
“لقد كرّست العشر سنوات الماضية من حياتي لدراسة كيفية التنبؤ بالأسواق. وكالكثيرين، خسرت آلاف الدولارات في البداية لأنني دخلت هذا المجال دون علم أو دراسة.”
ويُكمل:
“أدركت لاحقًا أن كل ناجح في أي مجال – طبيب، محامٍ، عالم – لا يحقق أي شيء دون سنوات من البحث والدراسة. لهذا قررت أن أدرس السوق كما يُدرس العلم.”
من الكتب إلى الواقع: قانون الاهتزاز
كشف جان عن النظرية الأساسية التي استند إليها في توقعاته الدقيقة للسوق، والتي أسماها “قانون الاهتزاز“. وهو يرى أن الأسواق، مثلها مثل الطبيعة، تتحرك وفق ترددات وقوى خفية يمكن رصدها وفهمها.
“وجدت أن هناك نمطًا دوريًا في حركة السلع والأسهم، وهو ما قادني إلى استنتاج أن هناك قانونًا طبيعيًا يحكم السوق. وقررت تخصيص 10 سنوات لدراسة هذا القانون وتطبيقه.”
جان لم يكتفِ بالمراقبة فقط، بل انغمس في دراسة الأسواق منذ عام 1820، حيث قضى 9 أشهر بين مكتبة أستور في نيويورك والمتحف البريطاني في لندن، يجمع بيانات الأسعار ويحللها. راقب عن كثب كبار المتلاعبين مثل جاي جولد ودانيل درو، بل ودرس أسعار يونيون باسيفيك منذ أيام هاريمان.
تطبيقات قانون الاهتزاز
شرح جان كيف أن الأسهم مثل الذرات والجزيئات، تستجيب لقوانين الاهتزاز، وقال:
“من خلال دراسة هذه القوانين، يمكنني تحديد القمم والقيعان بدقة، ومعرفة مستويات الدعم والمقاومة لأي سهم. الاهتزاز هو المفتاح لكل حركة في السوق.”
بل أشار إلى أن هذه القوانين لا تحكم فقط الاتجاهات الكبرى، بل تنطبق على الحركات اليومية واللحظية أيضًا.
“السوق مثل المد والجزر. هناك فترات من النشاط المرتفع يتبعها خمول. هذه الفترات ليست عشوائية، بل تحكمها ترددات طبيعية.”
أمثلة مذهلة من توقعاته
خلال الحديث، شارك الصحفي عدة أمثلة حقيقية لتوقعات جان:
-
عندما كان سهم Union Pacific عند 172، قال جان إنه سيصل إلى 184 تمامًا ثم يهبط. وقد حدث ما توقعه بالحرف.
-
في سهم الحديد، توقع صعوده من 50 إلى 58 ثم هبوطه 16 نقطة، وفعلاً تحقق السيناريو بدقة.
-
عندما كان سعر القمح 89 سنت، توقع أن يصل إلى 1.35 دولار في مايو، وقد حدث ذلك فعليًا.
وفي إحدى الصفقات المذهلة، حوّل جان مبلغ 130 دولارًا إلى 12,000 دولار في أقل من شهر واحد فقط.
1. قمة سهم Union Pacific في 1908
في واحدة من أولى تنبؤاته المثيرة، قال جان إن سهم “Union Pacific” لن يتجاوز مستوى 169، وتوقّع أن يبدأ بالهبوط القوي من هذه النقطة. وبالفعل، بمجرد أن لامس السعر هذا الرقم، بدأ في الانخفاض حتى وصل إلى 152، مما أكد صدق توقعاته بدقة مدهشة. هذا التنبؤ وحده أكسبه شهرة واسعة في وول ستريت.
2. صفقة سهم الحديد الأمريكي (U.S. Steel)
توقّع جان أن سهم شركة “حديد الولايات المتحدة” الذي كان يتداول عند 50 دولارًا سيرتفع إلى 58، لكنه لن يصل إلى 59، وبعدها سيبدأ في الهبوط. قام بشراء السهم عند السعر المنخفض وباعه عند 58، ووضع أمر وقف خسارة عند 59 – وهو مستوى لم يتم لمسه على الإطلاق – ثم بدأ السهم في الهبوط بمقدار أكثر من 16 نقطة، تمامًا كما توقع.
3. صفقة القمح التي أبهرت الجميع
حين كان سعر القمح 89 سنتًا، صرّح جان بثقة أن السعر سيرتفع إلى 1.35 دولار في مايو. وبالفعل، ارتفع السعر تدريجيًا حتى بلغ الرقم الذي ذكره بالضبط، مما مكّن جان ومن معه من تحقيق أرباح ضخمة. هذه الصفقة أصبحت لاحقًا مرجعًا لكيفية استخدام قوانين الاهتزاز في تحليل السلع.
4. الهبوط الدقيق لأسهم السكك الحديدية
في وقت كانت فيه أسهم السكك الحديدية تتجه للهبوط، كان جان يؤكد أن سهم “حديد الولايات المتحدة” سيخالف هذا الاتجاه ويصعد. وبالفعل، حدث ما قاله، ليظهر تفوق طريقته التي لا تعتمد على تحليل السوق فقط، بل على فهم ديناميكي للطاقات والقوى المؤثرة في كل سهم بشكل مستقل.
5. تحديد قمة الداو جونز بيوم وسعر محدد
في واحدة من أكثر تنبؤاته شهرة، توقع جان في بداية العام قمة موجة صاعدة لمؤشر “داو جونز” في يوم محدد من شهر أغسطس، وحدد السعر الذي سيتوقف عنده. وعندما جاء ذلك اليوم، لامس المؤشر بالضبط الرقم الذي ذكره، مما أذهل حتى أكثر المتشككين.
6. من 130 إلى 12,000 دولار في أقل من شهر
في صفقة مذهلة، استطاع جان تحويل 130 دولارًا إلى 12,000 دولار في أقل من 30 يومًا فقط من التداول. لم يكن هذا إنجازًا واحدًا فقط، بل تكرر منه أكثر من مرة. لقد كان جان متداولًا يعرف تمامًا أين يضع أمواله ومتى يدخل ويخرج من الصفقة.
7. 16 عملية تداول في يوم واحد على نفس السهم
في يوم واحد، نفّذ جان 16 صفقة متتالية على سهم واحد فقط، كان نصفها عند قيعان أو قمم دقيقة. هذا الأداء لم يكن عشوائيًا، بل نتيجة لحسابات دقيقة تعتمد على قوانين الزمن والاهتزاز والطاقة الدورية.
قال عنه المحلل الشهير جيمس كوييني:
“الرجل الذي يكون على صواب في 6 من كل 10 صفقات يستطيع أن يبني ثروة… لكن جان كان على صواب في أكثر من 92% من تداولاته.”
أسرار لا تُكشف
رغم محاولات عديدة، رفض جان الكشف عن تفاصيل طريقته لأي شخص. لكنه أكد أن أساس نظريته هو القانون الطبيعي للسبب والنتيجة، وقال:
“لا يوجد شيء في الكون يحدث صدفة. كل ظاهرة لها سبب. ومَن لا يدرس السبب سيظل يلاحق النتائج بلا فائدة.”
من هو وليم جان؟
وُلد وليم جان عام 1878 في ولاية تكساس الأمريكية، وعُرف منذ صغره بشغفه الشديد بالرياضيات والدين. وبدأ اهتمامه بالأسواق المالية في وقت مبكر من حياته، حيث عمل كوسيط في بداياته. وبسبب شغفه الدائم بالعلم والبحث، قرر أن يكرّس سنوات من حياته لدراسة العلاقة بين الأسواق وقوانين الكون، وهو ما قاده إلى وضع واحدة من أكثر النظريات عمقًا في تاريخ التداول.
كتب جان عدة مؤلفات خالدة، من أشهرها:
-
Truth of the Stock Tape
وبينما يعتبره البعض غامضًا أو مبالغًا في قدراته، لا ينكر أحد أنه قدّم للعالم رؤية جديدة تمامًا في فهم حركة الأسواق.
في الختام
ما قدمه جان في هذا اللقاء لم يكن مجرد معلومات عن صفقاته، بل كان كشفًا فلسفيًا عن الطريقة التي يرى بها العالم والأسواق. جان لم يكن مجرد متداول ناجح، بل باحثًا في القوانين التي تحكم الطبيعة والمال والزمان.
وإن كانت آراؤه محل جدل حتى اليوم، فإن الأرقام لا تكذب: نسبة نجاح تتجاوز 90%، أرباح تضاعف الحساب عشر مرات، وتوقعات تحققت بالدقة الحسابية.
هكذا كان وليم جان، وهكذا يجب أن يُدرس.